Monday, February 10, 2014

سادسا

فردوس الآباء : ...
(نواصل عرض مقدمة الكتاب ...)

سادسًا: المصادر الحديثة لأقوال الآباء:

لا يوجد أي عمل آخر يعطي فكرًة أفضل عن روح الرهبنة المصرية مثل المجموعة المجهولة المؤلِّف (أو المصنف) للحِكم الروحانية المسماة:
Apophthegmata Patrum = Les Apophthegmes des Peres du desert =
The Sayings of the desert Fathers.
وقد جمِعت هذه المجموعة ربما في حوالي نهاية القرن الخامس، وتحوي أقوالا
لأكثر الآباء ومتوحدي براري مصر شهرًة، كما تحوي أخبار فضائلهم ومعجزاتهم. وقبل أن تكتب باليونانية كان يوجد غالبا تقليد شفاهي عنها باللغة القبطية. وقد نظِّمت هذه المقتطفات الأدبية المختارة ربما في القرن السادس بطريقة الأبجدية لأسماء الآباء ثم ترجِمت إلى لغاتٍ عديدة. وهي تعطي صورًة حيًة للحياة الرهبانية في وادي النطرون بصفةٍ خاصة، فهي تمثل مصدرا ذا قيمة فائقة يصعب تقديرها لمعطيات التاريخ الديني والمدني].

وقد وجِدت أقوال الآباء التي يتكون منها فردوس الآباء (بستان الرهبان) أصلا باللغات
اللاتينية واليونانية والسريانية والقبطية. وتوجد ترجمتان مستقّلتان باللغة السريانية متساويتا القيمة الأثرية فقد جمع أحد رهبان العراق في القرن السابع المدعو "حنان عيشو" أو "حنا عيسى ما وجِد بالسريانية حتى ذلك الزمان من أقوال الآباء رواد الرهبنة المصريين، وقد صنفها في كتابٍ كبير سماه: "فردوس الآباء The Paradise of the Fathers
موضحا فيه "سير الآباء القديسين تأليف بالليديوس وجيروم". "وقد صنفت المجموعة اليونانية لأقوال الآباء بطريقتين: الأبجدية والموضوعية:

١ - المجموعة الأبجدية: وقد ُألحَِقت بها المجموعة المجهولة أسماء أصحابها
هذه المجموعة الأبجدية تحتوي على أقوال كل أبٍ على حدة مرتبًة أبجديا حسب أسماء الآباء أصحاب هذه الأقوال، وقد ترجِمت من اليونانية إلى اللاتينية ثم إلى
اللغات الحديثة: الفرنسية والإنجليزية والألمانية والعربية وغيرها.

أما المجموعة المجهولة الأسماء فهي تضم الأقوال غير المعروف أسماء أصحابها، وهي التي نجدها في البستان العربي مبتدئًة هكذا: "قال شيخ" أو "قيل إن" …إلخ. وقد طبِع الأربعمائة قول الأولى منها في عدة ملازم عن "استعراض للمسيحية الشرقية ثم نشر جميع هذه الأقوال (الأبجدية والمجهولة الأسماء) عام ١٩٦٦ م تحت عنوان J. C. Guy
Apophthegmes des Pères du Desert, Bellefontaine.

٢ - المجموعة الموضوعية: حيث صنفت أقوال الآباء بطريقةٍ منهجيةٍ موضوعية
في حوالي عشرين فصلا، وقد نشرها أصلا باللغة اللاتينية "بيلاجيوس ويوحنا" وأعيد نشرها في مجموعة: Les Sentences : في ثلاثة أجزاء بعنوان Benedictine  Wilmart ن

ويقول مؤلِّف كتاب  :"The Desert Fathes : إن المؤلف لأقوال الآباء باللغة الأصلية - اليونانية، والتي ترجمها بيلاجيوس في القرن السادس إلى اللاتينية، لم يكن يحتمل ولا حتى ظّله أن يقع على إحدى صفحاتها! بل ولا حتى في عناوين الفصول … إن طريقة كتابة الأقوال تعتبر قريبة جدا من الطريقة الحية التي خرجت بها من أفواه الآباء كما هي!

لقد جلس هؤلاء المباركون تحت قدمي كل أبٍ في قلايته على الحصير بكل غيرةٍ وشغفٍ وقابليةٍ للتعلُّم، ورغم تعدد الترجمات فالمصدر واحد وهو برية الأسقيط التي كان لا يصل إليها الإنسان إلا بمعرفته لنظام النجوم في السماء]!

إن كلمات الآباء في الأسقيط كانت تندفع بقوةٍ وحرارةٍ لدرجة أنها كان يسهل أن تستقر في القلب، كما أن تقليدها الشفاهي أخذ وضعه تدريجيا في مجموعاتٍ مكتوبة، وبعضها جمِع قبل عام ٤٠٠ م ... أما ما جمعه حنان عيشو (حنا عيسى) من اللغة السريانية في كتاب "فردوس الآباء"، فيسترعي انتباهنا في كتابه هذا أنه يعتبر مكتبة للكتابات النسكية أكثر من كونه عملا فرديا باعتباره يحتوي أيضا على ترجمةٍ سريانية لحياة القديس أنطونيوس بقلم القديس أثناسيوس.

كما توجد ترجمة سريانية أخرى في مخطوطات مختلفة في مكتبتي الفاتيكان والمتحف البريطاني قد تكون في درجة القيمة الأثرية لترجمة حنان عيشو التي جمعها في القرن السابع.

وقد نشر هذه الأقوال "والليس بدج "Wallis Budge   عام ١٩٠٤ م باللغتين السريانية والإنجليزية معا، ثم أعاد طبع الترجمة الإنجليزية وحدها عام ١٩٠٧ م، ثم نشر الجزء الخاص بأقوال الآباء فقط عام ١٩٣٤ م تحت اسم:
The Wit and Wisdom of the Christian Fathers of Egypt, the Syrian
Version of the Apophthegmata Patrum, by “ANAN ISHO” of BETH
ABHE.
وقد قيل إن حنا عيسى هذا جاء إلى برية شيهيت حوالي عام ٦٦٠ م بعد الفتح العربي مباشرًة كما يخبرنا "توما المرجاوي" في "كتاب الحكام"، وزار الأديرة ونقل أقوال الآباء من المخطوطات السريانية والقبطية، كما يقول حنا عيسى نفسه إنه نقلها من كتابات المغبوط بالليديوس، أي أن بالليديوس جمع أقوالا كثيرة بالإضافة إلى تاريخه اللوزياكي.

وفي مقدمة هذه الطبعة الإنجليزية عام ١٩٣٤ م يقول :Budge 
[أثناء السنوات التي انقضت منذ طبعة عام ١٩٠٧ م للترجمة من الأصل السرياني لـ "فردوس بالليديوس" والمجموعة الكاملة الكبيرة لالتي صنفها حنا عيسى The Apophthegmata Patrum
تلّقيت عدة رسائل من مؤلِّفي الكتب الأدبية والتقوية طالبين الإذن بإعادة الطبع ليقتبسوا في كتبهم من الأقوال والقصص التي جمعها حنا عيسى. وقد أقنعتني هذه الطلبات الكثيرة أن أقوال الآباء المصريين والأقطار المجاورة، لها تقدير سامٍ عند المسيحيين من جميع الطوائف، وقررت إذ ذاك إعادة الطبع … 

[وهذه الطبعة مأخوذة من القسمين الكبيرين اللذين أّلفهما حنا عيسى: المجموعة الأولى، وتحتوي على ٦٣٥ قولا قيل إنها من تأليف بالليديوس نفسه. والثانية، وتحتوي على  ٧٠٦ قولا منها عدد كبير بطريقة السؤال والجواب. والأقوال منظمة في الأصل بالطريقة الأبجدية أو طبًقا لمحتوياتها الموضوعية، وكانت توجد منها ترجمات باليونانية واللاتينية والقبطية والسريانية والأرمنية … كما كانت في مجموعات صغيرة محفوظة في الأديرة المختلفة التي زارها، أو نسخٍ استمدها من أصدقائه الروحيين. وأقدم الأقوال كان منبعها بدون شك في مصر مهد الرهبنة المسيحية، وكثير منها له صيغة النصائح التي اتصف بها معظم ُ كتاب قدماء المصريين!

[أما عن الانتقادات التي وجهت إلى هذه الأقوال مثل كونها ليست حقيقية وأنها تأّلفت في القرن السادس أو ما بعده، فيكشف عدم صحتها ما قام به "بتلر" و"روبنسون" من عملية تحقيق صحة الأقوال. وأنا أعتقد (أي Budge )  أنها تسجيل حقيقي للرهبنة المصرية وأنها أصيلة في مادتها وتمثل بالحق تعاليم من نسِبت إليهم، وهي تكشف بالضبط أفكار نساك مصر من برية الأسقيط حتى أسوان. إنها تصور آراء الرهبان في كل نقطةٍ يمكن تصورها تقريبا فيما يتعّلق بالحياة المسيحية الإيمانية والعملية كما فهموها. في هذه القوال اتضحت أمامنا قوة وضعف القديسين، فنقرأ عن معيشتهم الشاقة وإقماعهم لذواتهم بمعاناتهم للآلام التي تبدو غير ضروريةٍ وبلا جدوى، إلا أن ثبات وقوة إيمانهم واشتياقهم الحار لامتلاك أذهانٍٍ نقية في أجسادٍ نقية جعلتهم أنوا را مضيئًة لامعًة ومرشدين إلى السمو الروحي، وبرهنت على أنهم طالبون شغوفون لله].

النسخة القبطية: لم يصل إلى أيدي العلماء سوى مخطوطة واحدة باللغة القبطية باللهجة الصعيدية أجزاؤها مبعثرة في كثير من المكتبات الأوروبية. والجزء الأكثر أهمية من هذه المخطوطة القديمة هو التابع لمجموعة  Borgia المحفوظة في المكتبة الأهلية في نابولي بإيطاليا وهي تشتمل على مجموعةٍ من ٤٤ ورقة تمثل أجزاء مختلفة من التي نشِرت عام ١٩١٠ م. Zoega مجموعة
وقد قام العلامة Chaine بتجميع كل ما تبّقى من مكتبات العالم من ورقات هذه  
 المخطوطة ونشره مع ترجمته الفرنسية في كتابه
 Le Manuscrit de la version :
copte en dialecte Sahidique des Apophthegmata Patrum, 1960  
حّققها على المجموعات المعروفة الأخرى فوجدها مطابقًة للمجموعة اليونانية المنهجية التي نقلها إلى اللاتينية

النسخة الأرمنية: توجد نسختان باللغة الأرمنية: إحداهما من القرن الثاني عشر، ونشِرت في فينيسيا بإيطاليا عام ١٨٥٥ م باسم "كتاب الآباء القديسين وسيرهم"، 
والثانية من القرن الخامس عشر، ونشِرت أولا في القسطنطينية عام ١٧٢١ م، ثم ضمنت في نشرة فينيسيا عام ١٨٥٥ م.

النسخة الإثيوبية: نشِرت الأقوال الموجودة في المخطوطات الإثيوبية مع ترجمةٍ لاتينية عام ١٩٦٣ م، وتحت اسم Collectio Monastica تحت اسم V. Arras بواسطة بمدينة "لوفان" ببلجيكا. وهي تتضمن مائتي قول جديد لم ترد في المجموعات اليونانية التي نشِرت قبلها، ويقرر العلماء أن معظمها أصيل،
وقد تضمنتها المجموعة الفرنسية التي نشِرت أخيرا والتي ذكرناها سابًقا.

النسخة العربية: توجد بالأديرة والمكتبات القبطية مخطوطات باللغة العربية لكتاب بستان الرهبان تتضمن الكثير من الأقوال الموجودة في الترجمات السابقة بالإضافة إلى أقوالٍ أخرى لم تنشر بعد باللغات الأجنبية.
كما توجد مخطوطات أخرى باللغة العربية، مثل مخطوطة "تعاليم لأنطونيوس وآخرين" (م ٢٣  بمكتبة دير أنبا مقار)، و"تعاليم لكثيرين" (م ٤١ بنفس المكتبة)، تشمل أقوالا للآباء الأوائل لم تذكر في بستان الرهبان في الطبعات العربية السابقة ولا في الترجمات الأجنبية المعروفة، غير في كتابه: Amelineau أنه يرجح أن لها أصولا قبطية إذ قد وجدنا بعضها فيما نشره
.Histoire de Monastères de la Basse - Egypte, ADMG, Paris, 1894

(منقول من كتاب
فردوس الآباء
أي بستان الرهبان الموسع)

Thursday, February 6, 2014

المقدمة - تابع

فردوس الآباء : ...
(نواصل عرض مقدمة الكتاب)


خامسا : الرحالة الأجانب الذين جاءوا إلى مصر
وجمعوا أقوال الآباء ونقلوا الرهبنة إلى بلادهم : ...
1. القديس هيلاريون الغزاوي
2. القديس باسيليوس الكبير
3. روفينوس وميلانية الكبيرة
4. الحاجة إيثيريا (إيجيريا): زارت مصر في طريقها إلى أورشليم عام ٣٨١ م، ولا سيما منطقة جبل الله (جبل موسى) في سيناء، وبراري شيهيت والصعيد.

٥ - جيروم وباولا وابنتها استوخيوم: جيروم (إيرونيموس) أصله من "أكويليا" بإيطاليا، وقد قابل باولا وابنتها هناك ثم تقابلا في أنطاكية وسافرا إلى أورشليم ومنها إلى مصر إلى براري نتريا والقلالي وشيهيت نحو عام ٣٨٥ م

ثم زار جيروم الأديرة الباخومية في الصعيد وكتب عن نظام وقوانين الرهبنة الباخومية، ثم أسس في فلسطين ديرا للرهبان قرب بيت لحم، واشترك مع باولا في تأسيس دير للراهبات هناك صارت هي رئيسًة عليه، ثم خلفتها ابنتها استوخيوم بعد وفاتها.

٦ - القديس يوحنا كاسيان وزميله جرمانوس: وهما راهبان يرجح أنهما أصلا من بلاد الغال (فرنسا) كما قيل إن كاسيان من رومانيا، وقد تركا بلادهما وترهبا في دير ببيت لحم نحو عام ٣٨٥ م، ومن هناك زارا مصر مرتين، ويقال إنهما تركا مصر نحو عام ٣٩٩ م عائدين إلى بلادهما الأصلية، ولكن جرمانوس بقي في القسطنطينية حيث رسِم كاهنا، وذهب كاسيان إلى فرنسا حيث أسس بجوار مرسيليا ديرين نقل إليهما كل تراث تعاليم الآباء الأقباط وصلواتهم بل حتى زيهم الرهباني، ثم سّلم هذا التراث للقديس الغربي "بندكتوس من بعده، St. Benedict وهو الذي نسِبت إليه الرهبنة البندكتية الغربية المشهورة. 

وقد وضع كاسيان كتابيه المشهورين: الأول هو "المؤسسات أو "The Institutes
"او المجامع الرهبانية"، الذي وصف فيه حياة الرهبان المصريين بالتفصيل: أهدافهم الرهبانية وأنظمة صلواتهم وأصوامهم ونسكياتهم وأعمالهم اليدوية وملابسهم …إلخ. والثاني هو "The Conferences "المحادثات" سجل فيه جميع الأحاديث الروحانية التي سمعها مع صديقه جرمانوس من كل أبٍ على حدةٍ بلغت ٢٤ حديًثا مطولا.

٧ - بالليديوس: وهو أكثر من جمع أقوالا لآباء البراري القديسين، ووصف حياتهم في ذلك الزمان. كان مسقط رأسه في غلاطية بآسيا الصغرى نحو عام ٣٦٣ م، ولما بلغ عمره ٢٣ سنة ترهب وتتلمذ على القديس إينوسنتيوس في جبل الزيتون بفلسطين، ثم جاء إلى مصر حوالي عام 388م حيث قضى نحو ثلاث سنوات في الإسكندرية والبراري المجاورة لها وقال عنها: [إن هذه الأديرة كانت تضم بين جوانبها من النساك الراسخين في الإيمان ألفي نسمة 

ثم في عام ٣٩٠ م زار نتريا والقلالي وشيهيت وكتب عن كل من قابلهم فيها وجمع أقوال عدد كبير منهم حتى إن الرهبنة القبطية وتاريخ الأديرة المصرية تعتبر مدينًة لهذا الإنسان المبارك.

ثم اتجه إلى إتريب ومنها إلى أعالي الصعيد حيث زار أديرة الرهبان والراهبات في أنصنا (ملوي) وأديرة أنبا باخوم في طبنيسي حيث وصف الرهبنة الباخومية بالتفصيل، كما زار حبيس ليكوبوليس (أسيوط) المشهور القديس يوحنا التبايسي (أو الأسيوطي).

ثم رجع إلى الإسكندرية للعلاج، ومن هناك سافر إلى فلسطين حيث سكن في مغارة بيت لحم، وهناك تقابل مع العلامة جيروم، وفي سنة ٤٠٠ م رسِم أسقًفا على هلينوبوليس في آسيا الصغرى. وفي عام ٤٠٥ م نفاه الإمبراطور أركاديوس إلى أسوان في مصر، ومن هناك ذهب إلى أنتينيوي (الشيخ عبادة الآن بجوار ملوي) حيث رأى ١٢٠٠ راهب متوحد ”يعيشون من عمل أيديهم ويمارسون النسك إلى أقصى درجة“.

أما كتاب "التاريخ اللوزياكي" الذي اشتهر به بالليديوس - والذي ذكرناه سابًقا - فقد كتبه حوالي عام ٤١٩ أو ٤٢٠ م، وهو ينطق بما كان يكنه لهؤلاء النساك من حب وإعجابٍ، ولأنه سافر كثيرا وسمع منهم الكثير فهو يستحق أن يدعى "هيرودوت" آباء الصحاري. ويهمنا جدا أن نعرف أن "أميلينو" العلامة في القبطيات درس هذا الكتاب وتحقَّق من دّقة ما كتبه بالليديوس على أساس دراسته للآثار المسيحية في مصر، هذا بالرغم من أن بعض القصص التي ذكرها بالليديوس كان قد سمعها من آخرين بطريقةٍ مباَلغ فيها بعض الشيء.

وقد أرسل بالليديوس كتابه، الذي ضمنه - كما قلنا - صورا حية لحوالي ستين قديسا وقديسة في مصر وفلسطين وسوريا وآسيا الصغرى، مع رسالةٍ إلى لوزاس Lasus ياور الإمبراطور ثيئودوسيوس الثاني. وبين سير هؤلاء القديسين والقديسات ذكر بالليديوس الذين سقطوا من الفضيلة بسبب الكبرياء المفرطة، ورجوع بعضهم إلى السيرة المقدسة بواسطة نعمة الله. وبذلك يظهِر بالليديوس أن المسوح وحدها لا تصنع الراهب… ! ويخبرنا أنه شعر بأنه مضطر أن يسجل ذلك لكي نعرف مدى خطورة الكبرياء ومدى قوة الصلاة والاتضاع وكان مما قاله في رسالته إلى "لوزاس": [لقد شعرت في نفسي أنني لست على مستوى وضع مجموعة سير للآباء القديسين… لقد أرهبني عظم المشروع … ثم تفكرت في المنفعة التي سيسببها هذا العمل لمن يقرأونه، لذلك اعتمدت على المعونة الإلهية وشرعت في هذا العمل بجديةٍ كبيرةٍ، فدخلت هذا الميدان محمولا على أجنحة شفاعات هؤلاء القديسين … وقد حسِبت أهلا أن أتحّقق بنفسي من ملامح الوقار والخشوع لأولئك الذين نضجوا فعلا في ميدان التقوى … لقد سافرت على قدمي وتطّلعت في كل مغارةٍ وحجرةٍ لرهبان الصحراء بكل دّقةٍ ودافعٍ خشوعي … وسجلت في هذا الكتاب مناقشاتي مع هؤلاء القديسين وهم على
سجيتهم كبشر إلهيين…].

٨ - ميلانية الصغيرة: هي حفيدة ميلانية الكبيرة. كرست حياتها للمسيح وعمرها
حوالي ٢٠ سنة، وكانت غنية جدا، فوزعت كل أموالها على الكنائس والأديرة بما فيها الأديرة المصرية، ثم عاشت بعض الوقت في جزيرة صقلية.

وفي عام ٤١٧ م زارت شمال أفريقيا ثم ذهبت إلى أورشليم والتجأت إلى منزل للغرباء بجوار القبر المقدس. ثم زارت رهبان براري مصر، ثم رجعت متحصنًة بمثالهم وقدوة قداستهم، .( واستقرت في أورشليم في حياة وحدة وتأمل، وقابلت هناك قريبتيها باولا وابنتها استوخيوم.
(منقول من كتاب:
فردوس الآباء
بستان الرهبان الموسع
إعداد رهبان ببرية شيهيت
طبعة 2006)

Monday, February 3, 2014

3. روفينوس وميلانية الكبيرة

فردوس الآباء : ...
(نواصل عرض مقدمة الكتاب)

خامسًا: الرحالة الأجانب الذين جاءوا إلى مصر
وجمعوا أقوال الآباء ونقلوا الرهبنة إلى بلادهم:
3- روفينوس وميلانية الكبيرة: 
ظهر "تيرانيوس روفينوس" في أواخر القرن الرابع (عام ٣٧٣ أو ٣٨٥ م) في بلادنا طبًقا لحلم القديس أنبا مقار الذي رأى فيه سفينًة تجاريًة آتيًة إليه من الغرب بشخصٍ إيطالي. وبفضل روفينوس عبر جزءٌ كبير من أعمال (أي سير وكتابات) هذا القديس المصري العظيم أنبا مقار محيط العصور المظلمة، وفي حين فُقِد هذا الجزء من اللغة اليونانية فقد بقي في اللاتينية لكي يغني الغرب والشرق على السواء.
تقابل روفينوس مع النبيلة الأسبانية الأصل والرومانية الموطن التقية السيدة ميلانية الكبيرة (جدة ميلانية الصغيرة) في روما، واصطحبها مع آخرين في رحلتها السياحية إلى الشرق وقيل إن ذلك كان عام ٣٧٣ م، وقد زاروا الأديرة المصرية. ورافق القديسة ميلانية إلى نتريا القديس إيسوذورس الذي من نتريا وأنبا ديوسقورس أسقف دمنهور، ثم رجعت إلى فلسطين بعد أن قضت ستة أشهر في زيارة آباء البراري المصرية. وقد رغب هؤلاء الرحالة في الإقامة الدائمة في مصر لولا الاضطهاد الأريوسي ويقرر روفينوس في دفاعه (تحت رقم ٤٦٦ ) أنه مكث ست سنوات في مصر حيث قابل العديد من قديسي البراري الذين كتب عنهم، وأنه رجع مع زملائه إلى مصر مرًة ثانيًة لمدة عامين، ويرجح أن رحلتهم الأخيرة هذه بدأت عام ٣٩٤ م، لأن القديس يوحنا الأسيوطي الذي قابلهم تنبأ لهم عن خلع الإمبراطور أوجينيوس بواسطة ثيئودوسيوس، هذا الذي ّ تم في  سبتمبر من هذا العام ... وكان الرهبان المصريون يشعرون بعدم استحقاقهم لهذه الزيارات، فقد قال مثلا القديس يوحنا الأسيوطي لجماعة روفينوس: [ما هي الأمور ذات الأهمية التي تتوقعون أن تجدوها - يا أولادي الأعزاء - حتى إنكم وضعتم على عاتقكم مثل هذه الرحلة الطويلة المليئة بالأتعاب لتزوروا فقراء بسطاء لا يملكون شيًئا جديرا بالرؤية أو التعجب منه؟… إنني متعجب من غيرتكم! كيف لا تبالون بهذه الأخطار الكثيرة في مجيئكم إلينا لكي تتعّلموا منا]؟! وكان ردهم بأن ما يرونه ويسمعونه في أماكن القديسين ينطبع في أذهانهم كالصور ولا يمكن أن يمحى من ذاكرتهم.
ولما وصلوا إلى نتريا كان أنبا مقار الإسكندراني قد توفي منذ قليل . وقد وصف روفينوس كل ما رآه وسمعه بدّقةٍ، وينسب إليه كتاب
 The Historia Monachorum in Aegypto
الذي يعتبر أحد المصادر الرئيسية لأقوال الآباء، ولكن البعض يرجح أن كاتبه هو تيموثاوس أحد شمامسة الإسكندرية عام ٤١٢ م.

ومن أقوال هذا الكتاب: [مبارك هو الله… لأنه جاء بنا إلى مصر…لقد وهب لنا -
نحن الذين نريد أن نخلص - الأساس والمعرفة للخلاص. لقد زودنا الرب، ليس بنماذج للحياة الصالحة فحسب، بل أيضا كشف لنا كل ما يؤدي إلى تكريس النفس الحقيقي لله. هذه الأمور لا يستحق من هم مثلنا أن يتكّلموا عنها، ولكنني في تسجيلي هنا عن آباء البراري المصريين اعتمدت على صلواتهم لكي آخذ أنا أيضا منفعًة لنفسي من حياة هؤلاء : الرهبان باقتدائي بطرق حياتهم، لأنني بالحق رأيت كنز الله مخفى في أوانٍ خزفية ( ٢كو ٤)، لذلك فلم ُأرد أن أحتفظ بهذا الكنز لنفسي في حين أنه ينفع الكثيرين].

ثم أكد روفينوس أن الفضل الأول في قداسة هؤلاء الآباء يرجع إلى تعاليم الرب يسوع المسيح، مما يثبت أن أصل الحياة الرهبانية هو إنجيليٌ صِرف. ثم يقول: [لأنني رأيت في مصر آباء كثيرين يعيشون حياة ملائكية إذ تقدموا بثباتٍ في التشبه بمخلِّصنا الصالح. لقد رأيت أنبياء بلغوا إلى حالةٍ شبه إلهية بفضائل حياتهم اُلملهمة والعجيبة، فهم خدام حقيقيون لله. إنهم لا يشغلون أنفسهم بأي أمر أرضي ولا يهتمون بشيءٍ يتعّلق بهذا العالم الزائل، بل إنهم يعيشون على الأرض كمواطنين سمائيين، بل إن الكثير منهم لا يعلم أن الشر لا زال موجودا في العالم … إنهم موزعون في البراري منتظرون للمسيح كأبناء مخلصين ينتظرون والدهم…

حًقا إنه لواضح للجميع أن العالم محفوظ بهم وأن الحياة البشرية تكرم بصلواتهم…لا توجد مدينة أو قرية في مصر لم تكن محاطة بأماكن للنسك والعبادة وكأنها أسوار، كما أن الناس يعتمدون على صلوات الرهبان كاعتمادهم على الله نفسه]!

وما أجمل وصف هذا الكتاب لترحيب الرهبان، إذ قال: [لقد غسلوا أرجلنا كما لو
كانوا يزيلون عنا تعب رحلتنا، ولكنهم في الحقيقة كانوا يزيلون عنا متاعب الحياة الدنيوية بهذا العمل التقليدي، ولما رأينا اهتمامهم بالتأمل في الكتاب المقدس والتعمق فيه شعرنا أن كلا منهم كان خبيرا في كلمة الله وحكمته].

أما القديسة ميلانية الكبيرة فقد قابلت العديد من الآباء في أماكن نسكهم في أعماق البراري، حيث تتلمذت على تعاليمهم وأخذت من اختباراتهم زادا مكنها من أن تصير أما لراهبات ديرها الذي أسسته في جبل الزيتون في فلسطين نحو عام ٣٧٧ م. وقد ُأضيَفت ثروة روفينوس إلى ثروة ميلانية، وبنيا بها مساكن لرهبان جبل الزيتون. كما سجل روفينوس أنه قام برحلةٍ إلى "إديسا" (الرها) و"تشارو  حيث رأى مساكن للرهبان كالتي رآها في مصر.
(منقول من كتاب: "فردوس الآباء - أي بستان الرهبان الموسع)

Wednesday, January 29, 2014

خامسا

خامسًا: الرحالة الأجانب الذين جاءوا إلى مصر وجمعوا أقوال الآباء ونقلوا الرهبنة إلى بلادهم:
زار مصر واستنار بنور قديسي براريها الكثيرون من الرحالة الأجانب الأتقياء، ونقل
معظمهم أنظمتها الرهبانية إلى بلادهم مسترشدين بتعاليم آباء النسك فيها، لأن مصر هي مهد الرهبنة في العالم كله، وأهم هؤلاء الزوار الرحالة حسب ترتيب تواريخ زيارتهم هم:

١ - القديس هيلاريون الغزاوي: رئيس ومؤسس رهبنة فلسطين. زار القديس
أنطونيوس نحو عام ٣٠٧ م، وتتلمذ له أسابيع قليلة بدأ على إثرها حياته النسكية التوحدية في براري غزة، ثم تتلمذ له مئات الرهبان حيث أسس لهم ديرا.

٢ - القديس باسيليوس الكبير: أسقف قيصرية الكبادوك. جاء إلى بلادنا نحو عام ٣٥٨ م، وحمل معه نظام حياة الشركة الباخومية وجعله أساسا لنظامه الرهباني في آسيا الصغرى.
(يتبع)

Tuesday, January 28, 2014

رابعا : (تابع)

وتعتمد روايات بالليديوس على ما كان قد رآه شخصيا أو اختبره، وعلى ما وصله من آخرين من القصص المشابهة لرواياته. وإن كانت "حياة أنطونيوس"تتركز في مصر إلا أن التاريخ اللوزياكي يصف الحياة الرهبانية ليس في مصر وحدها بل أيضا في فلسطين وسوريا وآسيا الصغرى. والهدف من كلا الكتابين هو إنارة القارئ.

وكان القديس أثناسيوس قد أرسل كتابه ”إلى الإخوة الذين في الأرجاء الأجنبية“،
إلى الأتقياء الذين كانوا يحاولون أن ينافسوا الرهبان المصريين في نسكهم وتقشفهم، وهكذا يقول: [وأنا أشعر أنكم أنتم أيضا مجرد أن تسمعوا القصة فلن  تعجبوا بالرجل فحسب، بل أيضا سترغبون في الاقتداء به، إذ ترون في حياته نموذجا كافيا للنسك الرهباني … لقد رأيت أنطونيوس مرارا، وهذا ما استطعت أن أتعّلمه منه، لأنني لازمته طويلا وسكبت ماءً على يديه… 

وقد اقتطع بالليديوس وقتا من حياته المليئة بالمشاغل كتب فيه صورا حية عن حوالي ستين قديسا وقديسة… وكان هذا في وقتٍ تحررت فيه الكنيسة حديًثا من الكهوف والسراديب التي أجبرتها الاضطهادات المتوالية على الصلاة بل والمعيشة فيها، وهو عصر "ليثومانيا" كما سماه بالليديوس، أي عصر جنون المباني الكنسية الشاهقة. ولكن بالليديوس أراد أن يعلِّم "لوزاس" دروس البناء الحقيقي، أي التأسيس النموذجي للشخصية في القلب - هيكل أو كنيسة الله الحي - على أساس سير قديسي البراري
(يتبع)

Monday, January 27, 2014

تابع رابعا

فردوس الآباء : ...
(نواصل عرض مقدمة الكتاب)

وكان تأثير كتاب "حياة أنطونيوس بقلم أثناسيوس" على الحياة الرهبانية وعلى سير حياة آبائنا القديسين تأثيرا هائلا ممتازا، وأهم شاهد على ذلك في الغرب هو القديس أوغسطينوس، وسيرته وكتاباته معروفة، هذا الذي اقتفى إثر خطوات أنبا أنطونيوس رغم أنه لم يره! ويقول العلامة المؤرخ "هارناك": [لو سمِح لي أن أستخدم لهجًة قويًة، فلن أتردد عن القول إنه لا يوجد كتاب كان له أعمق تأثير خرافي في مصر وفي غرب آسيا وفي أوروبا من كتاب "حياة أنطونيوس بقلم أثناسيوس"]

ويقول عنه القديس غريغوريوس التريتري اللاهوتي: [إن القديس أثناسيوس في هذا الكتاب ينشر دستور أو قوانين الحياة الرهبانية المثالية في شكل قصة]

أما ناشر الترجمة الإنجليزية لكتاب بالليديوس، وهو Robert T Meyer فيقول في
المقدمة: [أهم وثيقتين أصيلتين لتاريخ الرهبنة المبكِّرة في مصر، حيث نبعت الرهبنة، هما:
١) "حياة أنطونيوس بقلم أثناسيوس" الذي كُتِب حوالي عام ٣٥٧ م،

( ٢) "التاريخ اللوزياكي لبالليديوس" الذي كُتِب بعده بحوالي ٦٠ سنة، وقد اشتق اسمه The Lausiac History من اسم الشخص الذي كُتِب من أجله وهو الياور الملكي "Lausus "لوزاس في بلاط الإمبراطور ثيئودوسيوس الثاني.

وترجع القيمة التاريخية على نطاقٍ واسعٍ لكلٍّ من هذين الكتابين إلى أن مؤلِّف كلٍّ منهما كان قد عاش بنفسه فترًة في البراري المصرية، وكان يعرف جيدا الأمور التي كتب عنها، كما أن كلا منهما يكمل الآخر.

Sunday, January 26, 2014

رابعا : المصادر الأولى (الأصلية) لأقوال الآباء

فردوس الآباء : ...
(نتابع عرض مقدمة الكتاب)

رابعًا: المصادر الأولى (الأصلية) لأقوال الآباء:
أهم الوثائق التي نشكر الله من أعماقنا لأنه دبر وصولها إلينا واستقينا منها هذه التعاليم الآبائية هي:

١ - حياة القديس أنطونيوس بقلم القديس أثناسيوس الرسولي.

٢ - التاريخ اللوزياكي لبالليديوس أسقف هلينوبوليس، وتنسب إليه أيضا عدة أقوال جمعها الراهب العراقي "حنا عيسى" (أو حنان عيشو) في القرن السابع.

 ٣ - تاريخ الرهبان المصريين منسوب إلى روفينوس واسمه
  The Historia Monachorum in Aegypto :
والذي ُ كتِب أصلا باللغتين اليونانية واللاتينية

٤ - بعض ما سجله سقراط وسوزومين في تاريخهما الكنسي.

 ٥ - مجموعات أقوال الآباء المسماة "The Apophthegmatua Patrm   وسنتكلم عنها ،بالتفصيل.

 ٦ - كتابات القديس يوحنا كاسيان وهي: المجامع أو المؤسسات الرهبانية  ،Institutes والمحادثات .The Conferences

Thursday, January 23, 2014

ثالًثا: أنواع أقوال الآباء:

فردوس الآباء : ...
(نواصل عرض مقدمة الكتاب)

ثالًثا: أنواع أقوال الآباء:
مع أننا نجد بعض الأقوال تتعّلق بحياة الشركة، إلا أن معظمها يتركز ثقله على الحياة التوحدية، ولذلك فهي تقدم الحياة الجماعية باعتبارها في وضعٍ أقل سموا وإن كان يعتبر شرطا أساسيا للمبتدئين. وأهم أنواع أقوال الآباء هي:

١ - حدثٌ غير مهم ولكنه ذو مغزى هام: مثالٌ لذلك: [ضفر أنبا يؤنس القصير مرًة
ضفيرتين لسّلتين إلا أنه خاطهما سّلًة واحدًة، ولم ينتبه إلا حينما وصل إلى نهاية الضفيرة، وذلك لأن فكره كان مشغولا بالرؤية الإلهية (التاورية)]. 
ومثالٌ آخر: [دعا تلميذ أنبا شيشوي معلِّمه للأكل، 
فسأله الأب: ”ألم نأكل يا ابني“؟ أجابه: ”كلا يا أبي“. 
فقال له: ”إن لم نكن قد أكلنا فهاتِ لنأكل“]! بهذا المقدار كانت لامبالاتهم بطعام الجسد.

٢ - إجابة سؤال أو طلب ”ُقل لي كلمة“: حيث كانوا كثيرا ما يذكرون آيات من
الكتاب المقدس بدلا من أقوالهم، كما كانت أقوالهم هنا قصيرة قدر المستطاع، ولكنها مليئة بالمعاني والخبرات العميقة.

٣ - المبادرة بالكلام دون سؤال: وكان هذا الكلام غالبا ينبع من شعور الأب بمسئوليته عن نفوس تلاميذه، وعن شعوره باحتياجاتهم الروحية الحقيقية والواقعية.

٤ - الأمثلة والرموز: مثال ذلك: عندما طلب أحد الآباء من سائله أن يملأ الكوز ماءً، ثم طلب منه أن يحركه، ثم سأله متى يمكنه أن يرى وجهه في الماء جيدا؟ فقال: ”عندما يهدأ الماء تماما“. وذلك لكي يعبر له عن أفضلية حياة الهدوء لكي يرى الإنسان نفسه على حقيقتها.

٥ - سرد المعجزات: يظهر فيها كيف أن الآباء بصلواتهم وجهادهم مع الله أخذوا
مواهب رسولية بما في ذلك إقامة الأموات. وكان سرد هذه المعجزات موجزا لئلا يظن السامع أو القارئ أن الآباء كانوا يفتخرون بعمل المعجزات، أو أن هذا كان أحد أهدافهم من حياتهم النسكية. وفي الواقع كانت معظم المعجزات مجرد عمل رحمة في الآخرين أو لإظهار صحة عقيدتهم بالمقارنة مع عقائد الهراطقة.

٦ - الرؤى: تصف بعض الأقوال رؤى الآباء الذين وصلوا إلى الانخطاف العقلي أو
.¢pok£luψij أو رؤية الله oekstasij الدهش

Tuesday, January 21, 2014

أقوال الآباء تدعو كل إنسانٍ إلى العمق:

تدعو نعمة الله كل إنسانٍ إلى الحياة الروحية العميقة، وهي ليست ممكنة للجميع فحسب بل إنها إلزامية، لأنها هي جوهر المسيحية، وإن كان الجميع لا يتشاركون فيها بنفس القياس. أما المختارون أكثر من غيرهم فيدخلون فيها بعمقٍ أكثر من غيرهم، وبالتدريج يتسّلقون ليصلوا إلى أعلى درجاتها.

ومظاهر هذه الحياة الروحانية، وكذلك غِنى العالم الروحاني الذي تستعَلن فيه هذه الحياة، لاتقل غزارًة وتنوعا عن مظاهر الحياة العادية. ولو أمكن بوضوح فهم ووصف كل ما يحدث في هذا العالم الروحاني: من هجمات معادية وتجارب، من صراعات وانتصارات، من سقوط وقيام من السقطات، من نشأة ونمو المظاهر المختلفة للحياة الروحية، من درجات النمو وحالة الذهن والقلب المتصلة بكلٍّ من هذه الدرجات، والتفاعل في كل شيء بالنعمة والحرية الروحية، والأحاسيس المختلفة بوجود الله، والإدراك الحسي لقوة معونة الله فوق الكل، والتسليم النهائي لحياة الإنسان بين يدي الله، وهجران كل الأمور الدنيوية مع النشاط
والجهاد المستمرين … 

كل هذه وأمور أخرى كثيرة، تلك التي تمثل جزءًا مكملا للحياة الحقيقية في الرب؛ لو أمكن أن توصف بوضوح لأعطت صورًة جذابًة ومنيرًة وكأنها رحلة في هذا العالم الروحاني.

Monday, January 20, 2014

أهم الفضائل التي تبرزها الأقوال:

أهم الفضائل التي جاهد لأجل اكتسابها آباء البراري بلا حدودٍ وحتى اية حياتهم
هي: الطاعة، والاتضاع، والصلاة الدائمة، والصمت، والدموع … كل هذه وغيرها
زرعوا بها القفار فأثمرت لهم قداسة ومتعتهم بالتطهير من خطاياهم، كما أن معظم
الفضائل كانوا يقتنوها بالدموع والعرق والجهاد في الصلاة.

وبتراكم الخبرات الشخصية في الحياة الروحانية صارت تنبثق منها الإرشادات التي سُجلت في أقوال الآباء، وبالتدريج صارت أكثر وضوحا وفهما لمن جاءوا بعدهم. بل إن هذه الأقوال تعتبر عطية نافعة لكل المسيحيين بصفةٍ عامة. وهي عندما تفهم جيدا تلهِب الغيرة على اقتفاء إثر خطوات الذين نطقوا بها، وهي تدعو الإنسان إلى أن يتحرك نحو حياةٍ أفضل مما يحياها الآن.

واختبارات الآباء هذه التي تركوها لنا تعتبر ميراًثا ثمينا يُجنب كلٍّ منا مخاطر الطريق
الروحي الذي يحاول السير فيه بطرقه الخاصة. ولم يوجد في الحياة النسكية مجال للانشغال بالأمور العقائدية، ولا مناقشة مواضيع أو مشاكل الكتاب المقدس، لأن كل هذه تفقد الراهب سلامه الداخلي كما توجِد الانقسام في الرأي والتحزبات والأحقاد. أليس هذا هو سبب انقسام وتفتت المسيحيين الغربيين في القرون الأخيرة الذي أنشأ طوائف لا حصر لها؟!

مثالٌ على ذلك: [دعي الأب "كوبرس" ذات مرةٍ إلى اجتماعٍ للبحث في شخصية
ملكيصادق، هل هو شخصية إنسانية أم إلهية، فلما وصل سألوه عن هذا الموضوع، فضرب على فمه ثلاث مراتٍ قائلا: ”الويل لك يا كوبرس لأنك أهملت كل ما طلبه الله منك وشرعت تفتش عما لم يطلبه منك“! فلما سمع الإخوة ذلك رجعوا إلى قلاليهم]!
..................................................
(تعليق من إنشائي ... ليس من نص الكتاب):
الانسان الذي يسعى إلى إصلاح نفسه ... ونموه الروحي ... يجب أن يكون لديه حد أدنى من المعرفة العقيدية ... لكن يجب أن يتجنب الدخول في جدل عقيم يجلب الخصومات ... ويشتت الذهن ... ويفقد الإنسان سلامه ومحبته للآخرين !!!

Wednesday, January 15, 2014

العمل اليدوي

العمل اليدوي هو لأجل ضروريات الحياة:

إن كان الناسك يعمل بيديه لأجل احتياجات جسده، إلا أنه يشعر أن عمله اليدوي
هو من أجل الرب الذي كرس له روحه وجسده، كما أنه يملأ وقت عمله اليدوي
بالصلاة والتأمل وأحيانا بالقراءة والبكاء بسبب خطاياه أو بسبب شعوره بعدم استحقاقه لحب الله ورحمته، وهو في كل هذا لا يفسِح أي مجالٍ للأفكار الخاطئة لتسود عليه!

ولا يحتاج الراهب إلى أكثر من ضروريات الحياة، فعليه أن يلبس ثوبا من النوع الذي إذا ألقاه خارجا لمدة ثلاثة أيام لا يأخذه أحد (ُانظر أقوال أنبا بامو)، والطعام كان غالبا مرًة واحدًة في اليوم وشرب الماء بالمقدار، وكثير من الآباء عاشوا على الخبز والملح والماء معظم حياتهم باستثناء أيام المرض والأعياد والمناسبات التي كانوا يأكلون فيها معا على مائدة المحبة (الأغابي).

لها دور تربوي رهباني إنجيلي:

أقوال الآباء ليست للتعليم والتثقيف بل للمنفعة الروحية العملية، كما أن لها دورا
تربويا أساسيا للروح الرهبانية الإنجيلية ولا سيما للمبتدئين في الرهبنة، وبالأخص الذين يطيعون مرشديهم بروح التلمذة الحقيقية. والهدف من أقوال الآباء ليس هو وصف ثمر الروح القدس في النفس المتحررة من الأهواء، بل قيادة الراهب إلى الطريق الذي ينبغي أن يجوزه إذا أراد أن يتحرر من عبودية الأهواء وأن يتقبل في داخله ثمر الروح. ولما كانت أقوال الآباء تتضمن خبرات روحية متعددة، فهي تلقِّن الراهب ما يحتاجه من بصيرةٍ وإفراز روحي. إنها تلهِب وتهذِّب الذين يريدون أن يتشبهوا بحياة القديسين السمائية، وأن يتقدموا في الطريق المؤدي إلى ملكوت السموات. كما ينبغي معرفة أن هؤلاء الآباء قد اشتعلوا بالكامل بالحب الإلهي، وأنهم كانوا يجتهدون كثيرا جدا حتى لا يصابوا بالمجد الباطل، وأن يمتلئوا بالاتضاع.

حياة الراهب هي جهاد مستمر، حرب فيها ربح وخسارٌة، سقوط وقيام بلا توقُّف،
ولذلك فمن العبارات المألوفة في أقوال الآباء: ”أخ حورِب بالوقيعة“، ”أخ حورب بالزنى“ … إلخ. ومع أن المبتدئين يحاربون باستمرار من الشياطين ومن الجسد ومن أوجاع النفس وكثيرا ما يسقطون، إلا أن الكاملين من الآباء تصورههم الأقوال بأم في حالة نصرة دائمة على هذه الحروب حتى ضجرت منهم الشياطين.

 والثمرة المباركة التي يجنيها النساك باستمرار من هذه الحروب المتواترة هي أنها تكسِبهم حنكًة وخبرًة ينقلوها بسهولةٍ إلى تلاميذهم والأجيال اللاحقة من الرهبان بل وحتى العلمانيين، كما أنهم شعروا بأن هذه الحروب تجعل لجهادهم - بالصوم والصلاة والتوبة - أكاليل عظيمة خالدة في الأبدية!

وكم كان هؤلاء الآباء يترّفقون بالخطاة حتى يقتادوهم إلى التوبة ثم إلى القداسة! وكانوا يتظاهرون بأنهم لا يرون المخطئ وهو ساقط في خطيته، بل إنهم كانوا لا يحزنون مرشدهم أثناء سيرهم في القفر حتى ولو انحرف بهم عن الطريق للدرجة التي فيها يصيرون في خطر الموت! وفي الواقع تعتبر أقوال الآباء بمثابة صورة فوتوغرافية عن حياتهم في البراري.

كثيرٌة هي أتعاب الناسك، إلا أن هدفه واحد: وهو إرضاء الرب بتنقية قلبه واقتناء
الفضائل ليس لذاتها بل لتزيين العروس لعريسها، ويفضل القديس يوحنا القصير أن تحوز النفس ولو القليل من كل فضيلة.
....................................................................
(الملاحظات تحت هذا الخط من إنشائي وليست من نص الكتاب)
أقوال الآباء الروحيين هي ليست للرهبان النساك فقط ... بل لكل إنسان مسيحي يبتغي وجه الله ... لذلك أثناء قراءتك ... إستبدل كلمة راهب أو ناسك ... بكلمة "مسيحي" !!!

Monday, January 13, 2014

إلى مسيحيي اليوم

فردوس الآباء - 5

إلى مسيحيي اليوم ...
الذين يحكمون بكل سهولةٍ أن أقوال الآباء قد فقدت الآن طعمها وقوتها المحيية، ها أمامنا شهادة لراعٍ لوثري اسمه "ريتشارد ورمبراند "Richard Wurmbrand" المعروف بروايته المؤثِّرة عن أسره في السجون الشيوعية برومانيا. لقد 
كان محبوسا وحده في زنزانةٍ مظلمةٍ بدون أي كتابٍ أو ورقٍ، ولكنه استرد شجاعته
بتذكُّره لكتابٍ كان قد تلذذ به في الماضي، والذي لم يكن سوى "أقوال الآباء"،

 وقال: ”إنني أذكِّر نفسي بأحد كتبي المفضلة واسمه بلغتهم The Pateric"
الذي ينسب الخبرة لبعض قديسي القرن الرابع الذين أسسوا الأديرة الأولى في براري مصر. هذا الكتاب ذو الأربعمائة صفحة لما فتحته للمرة الأولى لم آكل ولم أشرب ولم أنم قبل أن أنتهي منه! إن مثل هذه الكتب َلهي مثل الخمر الجيدة، والأكثر قِدما فيها هو الأفضل“!

وفي وحدته وسكونه في زنزانته تذكر وشعر بأهمية وفائدة القول الآتي: 
[سأل أخ أحد الآباء قائلا: ”يا أبي، ما هو الصمت“؟ 
فأجابه قائلا: ”الصمت، يابني، هو جلوسك منفردا في قلايتك بحكمةٍ ومخافة الله، وتحصين روحك ضد سهام الأفكار المحرقة“]. 
ثم عّلق ريتشارد على ذلك بقوله: ”مثل هذا الصمت يلد الصلاح. إيه أيها الصمت الخالي من اضطراب الفكر، السلَّم الذي يصل إلى السماء! 
إيه أيها الصمت الذي لا يبحث فيه إلا عما هو جوهري، والذي فيه لا يتكلم المرء إلا مع يسوع المسيح! 
إن الذي يحفظ الصمت هو الذي يرتل :« قلبي مستعد لتمجيدك يا رب » 
 (  ُانظر مز ٥٦ : ٧ سبعينية) 

ثانيًا: القيم الروحية لأقوال الآباء:

فردوس الآباء - 4

ثانيًا: القيم الروحية لأقوال الآباء:
تشهد العديد من مؤلَّفات أقوال الآباء المنشورة حديًثا لجدة التشوق للمعرفة الروحية في أيامنا هذه حتى من خارج الأديرة، ويمكننا أن نتشرب هذه المعرفة من الرهبان الشيوخ الذين نسميهم ”آباء البرية“، فأقوالهم تساعد من يطلِع عليها ليكون في حالةٍ أفضل لتلقِّي صوت الروح في قلبه، ولكي ينصِت لا إلى كلامهم فحسب بل أيضا إلى صمتهم!

أقوالهم تعتبر ثمرًة للسكون وطول الروح اللذين ينبتان في هدوء البرية. وإن كان آباء
البراري قد اجتهدوا بكل قوتهم في إخفاء ممارساتهم الخارجية، فكم كانوا بالأكثر
يحتفظون بكل غيرةٍ بأسرار حياتهم الروحية الداخلية وعلاقتهم الشخصية بالله! فنحن لا نستطيع أن نستشف من هذه الأقوال حقائق ذلك العالم غير المنظور الذي كانوا يعيشون فيه، ولكننا نجد فيها مجرد وميضٍ عابر يكشف أحيانا عن موجات النور التي فيهم.

إن كل من يسلك، ولو قليلا، حسب أقوال الآباء فلن يخدع بل سيعثر على كل المعنى الحقيقي والعميق لأقوال وأعمال شيوخ البراري. ففي فردوس الآباء هذا لا توجد إطلاًقا ثمار ضارة. وإن كانت بعضها تبدو بدون جاذبيةٍ من الناحية الظاهرية بالنسبة لنا، عديمة الطعم بالنسبة لذوقنا، فظة بالنسبة لرّقتنا، أو جافة وقاسية بالنسبة لرخاوتنا؛ إلا أنها مليئة بالثمار الصحية الروحانية والخلاص للإنسان المتعطِّش للحياة الحقيقية.
.........................................
مازلنا نواصل عرض مقدمة الكتاب

Sunday, January 12, 2014

3- قرويون غير مثّقفين صاروا عمالقة في الروح

فردوس الآباء - 3

قرويون غير مثّقفين صاروا عمالقة في الروح:

معظم أقوال الآباء التي تحويها الموسوعة الأبجدية اليونانية مصدرها آباء برية الأسقيط، ورغم أن الكثير منهم كانوا قرويين من ريف نهر النيل وغير مثّقفين لم يتلامسوا مع المبادئ أو الفلسفات المعاصرة؛ إلا أن روح الله الذي جدد خلقتهم وطبيعتهم عمل فيهم بقوةٍ غير مدركة، فملأهم بالروحانية والنسك حتى استطاعوا أن يؤثِّروا ليس على معاصريهم فحسب؛ بل وعلى كل الأجيال اللاحقة ليتعّلموا منهم: ”النسك الذي تعّلموه من الكتب المقدسة“ حسب تعبير كتاب ”حياة أنطونيوس بقلم أثناسيوس“ (فصل ٤٦ ). وفي هذا يقول الأب متى المسكين: [إن اتصال إنسان واحد بالله اتصالا صحيحا كفيل بإنارة الكنيسة كلها والعالم!]

ولقد ابتدأ العديد من المتوحدين وآباء المجامع الرهبانية في الظهور منذ القرن الرابع كمختبرين ناجحين تركوا لنا خبراتهم العميقة، وخلقوا طابعا أدبيا للرهبنة وقوانين رهبانية ومقالات نسكية وعظات ورسائل على أعلى درجةٍ من الكفاءة الروحية، حتى فاقت كل الفلسفات الدنيوية بقدر ما تفوقت المسيحية والحياة حسب الروح على الحياة حسب الجسد!

لقد وضعوا مقالات ذات قيمة لاهوتية روحانية وتاريخية عالية، بل إن الأديرة نفسها
صارت مراكز بارزة للعلم الديني مثل أديرة أنبا شنودة رئيس المتوحدين، ودير أنبا مقار الذي صار لعدة قرون مركزا للكلية اللاهوتية. لقد كانت البرية مدرسة نموذجية للروح القدس، فالرهبان الجدد الذين التصقوا بالشيوخ القدامى كانوا يدعون تلاميذ. وكان الشيوخ مستعدين للرد على جميع الأسئلة الموجهة إليهم أو لأخذ زمام المبادرة في الأحاديث الروحانية، إلا إذا رأوا أن كلامهم لن يؤدي إلى نتيجة، فكانوا يصمتون أو يكون ردهم كما في القول الآتي:

 [سأل مرًة أنبا بيمين أنبا مقار: ”ُقل لي كلمًة لأخلص ، ولكن الشيخ أجابه: ”إن ما تبحث عنه قد اختفى الآن من بين الرهبان“ (أي أنهم صاروا لا يعملون بما يسمعون)]

وكان يأتي لسؤال آباء البرية ليس المبتدئون والبسطاء فحسب، بل وأيضا الأساقفة
ورؤساء الأساقفة والحكام، وكانت خبراتهم الروحية التي نقلوها لآخرين مؤيدًة بوضوح من كلام الكتاب المقدس بعهديه. وإن كان بعض هؤلاء الآباء قد صاروا أساقفة، إلا أن هذا كان يعتبر استثناءً في حياة آباء البراري الذين كان عمق التصاقهم بالرب يجعلهم يفضلون حياة الخلوة الهادئة عن حمل مسئولية خدمة النفوس التي لا يضمنون فيها خلاص نفوسهم، حتى ولو كان فيها خلاص لنفوس الرعية
« لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه»

ومن أمثلة تلمذة الأساقفة ورؤسائهم على آباء البرية: تلمذة البابا أثناسيوس الرسولي لأنبا أنطونيوس، والبابا كيرلس عمود الدين لأنبا سيرابيون، وزيارات البابا ثيئوفيلس ال ٢٣ المتكررة للقديسين باموا وأرسانيوس وغيرهما لسؤالهم أسئلًة روحيًة… والأمثلة على ذلك كثيرة.

...................................................
مازلنا نعرض مقدمة الكتاب في طبعته العربية - اعداد رهبان ببرية شيهيت سنة 2006

Thursday, January 9, 2014

قل لي كلمة لكي أخلص

”قل لي كلمة لكي أخلص“:

ينبغي أن تكون شركتنا مع آبائنا هؤلاء - في سِيرهم واختباراتهم - شركًة حية:
نسألهم ونتلّقى إجاباتهم لا بذهنية الحرف الضيقة، بل بمسئوليةٍ وحريةٍ روحانيةٍ لكي ننمو
مثلهم إلى ملء قامة المسيح.
لقد كان كل أبٍ منهم يأتي إليه الآخرون طالبين ”كلمًة للمنفعة“، لا لحشو عقولهم
بالمعلومات، بل لتنفيذها بروح الطاعة بحسب قصد الروح الأزلي الملائم لأيامنا هذه.
وبذلك يصير سؤالنا لهم عملا حيا ومحييا: فمن جهتنا يصير شهادة قبولٍ إيماني وحياة،
ومن جهتهم يصير امتدادا لحضور الروح إلينا.

فعندما نسألهم ففي الواقع نحن نسأل الله الساكن فيهم. الله يحب الذين يسألونه ويستجيبون لكلامه. إن الله يخاطبنا في سفر أيوب قائلا :
« إنهض واسألني فأجيبك » :
فأجاب أيوب الله قائلا :
«أسألك فتعلِّمني … بسمع الأذن قد سمعتُ عنك، والآن رأتك عيني » ( أي ٣٨ ) 
والسؤال التقليدي الذي كثيرا ما كان يسأله الراهب، ولا سيما المبتدئ، لمعلِّمه وأبيه الروحي هو: 
”ُقل لي، يا أبي، كلمًة لكي أخلص“ 
أو ”ُقل لي كيف أخلص“.
والكثير من أقوال الآباء جاءت ردا على مثل هذا السؤال.
ولا يمكن إخفاء العلاقة القوية بين أقوال الآباء وكلام الكتب المقدسة، لأن جوهر
معاني هذه الأقوال مبني على كلام الله. وهذا التعبير:
”ُقل لي كلمة لأخلص“ مبني على كلام بولس الرسول الذي يسمي الإنجيل كله
 : أف ١ ) « كلمة الحق إنجيل خلاصكم » :
.(٢٦ : أع ١٣ ) « إليكم أرسِلت كلمة هذا الخلاص » ،(١٣

ولعل أول سؤال من هذا النوع سأله أبو الرهبنة في العالم كله، أنبا أنطونيوس، لله
نفسه قائلا:
”أريد أن أخلص فماذا أفعل“؟
فجاءه الرد من الله مباشرًة بواسطة ملاكه.
ولعل أبا الرهبنة في العالم كله كان يضع الأساس للرهبان في كل الأجيال لكي يتعّلموا
كيف يسألون، ولكي يستلموا الإجابة - عن طريق المرشد - من الرب نفسه. وكان المفروض أن السائل يعلم ذلك في قلبه، ولذلك فقد كان عليه أن يقبل كلام معلِّمه كما
من فم الله.

ولذلك فكثيرا ما رأينا أخا يقطع مسافات طويلة لكي يحصل من أحد الشيوخ على قولٍ بخصوص أمور صغيرة وربما تبدو تافهة، ثم إذا استحق هذا القول أن يسلَّم للأجيال التالية فإنه بلا شك يعتبر بالنسبة لأول من استلمه نبعا غزيرا للاستنارة والنعمة لأنه كان يعتبر إجابًة له من الله نفسه على أمانته فيه وطاعته له.
وهكذا ظّلت أقوالهم حيًة في قلوب سامعيهم، ثم انتقَلت شفاها من جيلٍ إلى جيل.
وبتدبير من الله فإن تجميع أقوالهم لم يتأخر كثيرا عن عصرهم (القرن الرابع والنصف
الأول من القرن الخامس)، ثم كمل بعدهم بقرنٍ واحدٍ. ومن أهم الذين حّثهم الروح
على تسجيل هذه الاختبارات الحية هم: بالليديوس وكاسيان وروفينوس.

معظم آباء البرية الكبار علَّموا ولم يكتبوا إلا القليل، عّلموا بأعمالهم وبأقوالهم، وتقبل
كثير من السامعين أقوالهم بتعطُّشٍ واشتياقٍ. فلنكتشف ولنتعمق، كل يوم، كنوز أقوالهم
التي عبروا بها عن اختباراتهم الروحية لكي نحيا بالروح الذي عاشوا به، لأننا مثلهم تعمدنا « بالروح القدس ونار »  : هذا الذي قال عنه رب المجد 
 « جئت لأُلقي نارا على الأرض ولا أريد إلا اضطرامها» .(٤٩ : لو ١٢ )

مقدمة

أبدأ بنعمة الله سلسلة لعرض كتاب : فردوس الآباء - أي بستان الرهبان الموسع - مع إضافة تعليقات من عندي لشرح وتبسيط ما يصعب فهمة على الشباب ...
صلوا من أجلي يعينني الله ويكمل عمله ...

فردوس الآباء - 1
مقدمة
فضلنا أن نسمي كتاب أقوال آباء البراري (أي بستان الرهبان الموسع) باسم ”فردوس الآباء“، لأنه يكشف لنا عن ملكوت آبائنا الرهبان القدماء هذا الذي نريد أن ندخله في هذا الكتاب؛ فأقوالهم توحي لنا بأنهم يعتبرون حياة الراهب في البرية أفضل من حياة آدم في الفردوس قبل الخطية ..
أولا : ما هي أقوال الآباء؟
كلمة الله هي ينبوع الحياة الأول والأصلي الذي يحمل لنا الروح، فإذا شربنا من هذا
الينبوع، في نور الروح، يقودنا إلى الله، لأنه ينطلق من الله ليقودنا إلى الله.

هكذا أيضا The Apophthegmata Patrum أو بستان الرهبان، إذا طالعناها على
نفس المنوال نبلغ أيضا إلى الله، ذلك لأن آباءنا كانوا أناسا مثلنا وقد جسدوا في حياتهم كلمة الله. لقد امتزج الإنجيل بسيرة حياة كلٍّ منهم حتى صاروا هم أنفسهم كلاما ناريا يفسر لنا بنماذج عملية حية مدى عمق الإنجيل المكتوب، كما أثبتوا للعالم إمكانية تحويل الطبيعة البشرية وتغييرها بنعمة المسيح.

ولذلك فإن قراءة أقوالهم تعتبر ليست مطالعة روحية محببة وفحصا لأعماق النفس
فحسب؛ بل أيضا طعاما روحيا ليس مضاًفا إلى كلمة الله، بل إنه مبني على كلمة الله - أو شخص المسيح نفسه – الذي كان متجسدا في الذين تكرست قلوبهم بالحق لله. لقد شق آباؤنا هؤلاء لنا الطريق ومهدوها أمامنا بأن عاشوا الإنجيل حتى النفس الأخير، وقد دبر الله لنا ذلك ضمن خطته لخلاصنا لكي نسير على دربهم بأكثر سهولة. وبرجوعنا إلى أقوالهم وسيرهم نوسع أفقنا الروحي ونعمق مفاهيمنا الإنجيلية، فنغتني بغنى الروح، لأن الروح يهب حيث يشاء، ونحن يجب أن نكون حيث يشاء الروح لا حيث نشاء نحن!