”قل لي كلمة لكي أخلص“:
ينبغي أن تكون شركتنا مع آبائنا هؤلاء - في سِيرهم واختباراتهم - شركًة حية:
نسألهم ونتلّقى إجاباتهم لا بذهنية الحرف الضيقة، بل بمسئوليةٍ وحريةٍ روحانيةٍ لكي ننمو
مثلهم إلى ملء قامة المسيح.
لقد كان كل أبٍ منهم يأتي إليه الآخرون طالبين ”كلمًة للمنفعة“، لا لحشو عقولهم
بالمعلومات، بل لتنفيذها بروح الطاعة بحسب قصد الروح الأزلي الملائم لأيامنا هذه.
وبذلك يصير سؤالنا لهم عملا حيا ومحييا: فمن جهتنا يصير شهادة قبولٍ إيماني وحياة،
ومن جهتهم يصير امتدادا لحضور الروح إلينا.
فعندما نسألهم ففي الواقع نحن نسأل الله الساكن فيهم. الله يحب الذين يسألونه ويستجيبون لكلامه. إن الله يخاطبنا في سفر أيوب قائلا :
« إنهض واسألني فأجيبك » :
فأجاب أيوب الله قائلا :
«أسألك فتعلِّمني … بسمع الأذن قد سمعتُ عنك، والآن رأتك عيني » ( أي ٣٨ )
والسؤال التقليدي الذي كثيرا ما كان يسأله الراهب، ولا سيما المبتدئ، لمعلِّمه وأبيه الروحي هو:
”ُقل لي، يا أبي، كلمًة لكي أخلص“
أو ”ُقل لي كيف أخلص“.
والكثير من أقوال الآباء جاءت ردا على مثل هذا السؤال.
ولا يمكن إخفاء العلاقة القوية بين أقوال الآباء وكلام الكتب المقدسة، لأن جوهر
معاني هذه الأقوال مبني على كلام الله. وهذا التعبير:
”ُقل لي كلمة لأخلص“ مبني على كلام بولس الرسول الذي يسمي الإنجيل كله
: أف ١ ) « كلمة الحق إنجيل خلاصكم » :
.(٢٦ : أع ١٣ ) « إليكم أرسِلت كلمة هذا الخلاص » ،(١٣
ولعل أول سؤال من هذا النوع سأله أبو الرهبنة في العالم كله، أنبا أنطونيوس، لله
نفسه قائلا:
”أريد أن أخلص فماذا أفعل“؟
فجاءه الرد من الله مباشرًة بواسطة ملاكه.
ولعل أبا الرهبنة في العالم كله كان يضع الأساس للرهبان في كل الأجيال لكي يتعّلموا
كيف يسألون، ولكي يستلموا الإجابة - عن طريق المرشد - من الرب نفسه. وكان المفروض أن السائل يعلم ذلك في قلبه، ولذلك فقد كان عليه أن يقبل كلام معلِّمه كما
من فم الله.
ولذلك فكثيرا ما رأينا أخا يقطع مسافات طويلة لكي يحصل من أحد الشيوخ على قولٍ بخصوص أمور صغيرة وربما تبدو تافهة، ثم إذا استحق هذا القول أن يسلَّم للأجيال التالية فإنه بلا شك يعتبر بالنسبة لأول من استلمه نبعا غزيرا للاستنارة والنعمة لأنه كان يعتبر إجابًة له من الله نفسه على أمانته فيه وطاعته له.
وهكذا ظّلت أقوالهم حيًة في قلوب سامعيهم، ثم انتقَلت شفاها من جيلٍ إلى جيل.
وبتدبير من الله فإن تجميع أقوالهم لم يتأخر كثيرا عن عصرهم (القرن الرابع والنصف
الأول من القرن الخامس)، ثم كمل بعدهم بقرنٍ واحدٍ. ومن أهم الذين حّثهم الروح
على تسجيل هذه الاختبارات الحية هم: بالليديوس وكاسيان وروفينوس.
معظم آباء البرية الكبار علَّموا ولم يكتبوا إلا القليل، عّلموا بأعمالهم وبأقوالهم، وتقبل
كثير من السامعين أقوالهم بتعطُّشٍ واشتياقٍ. فلنكتشف ولنتعمق، كل يوم، كنوز أقوالهم
التي عبروا بها عن اختباراتهم الروحية لكي نحيا بالروح الذي عاشوا به، لأننا مثلهم تعمدنا « بالروح القدس ونار » : هذا الذي قال عنه رب المجد
« جئت لأُلقي نارا على الأرض ولا أريد إلا اضطرامها» .(٤٩ : لو ١٢ )